مذكرات مغترب..
الجزء الثاني
...
كان نومي عميقاً بعض الشيء..حينما استقر في أذني رنين جرس الشقة الذي أسكن فيه والمكون من طابقين فقط وهما الشقق السكنية في الحي الغربي
والمخصصة للمعلمين في مدينة قامشلو ..كانت مخيلتي مسرحاً لأحلام ارتسمت في ذهني تغزل الحان السفر وأناشيد رحلة تنقلني نحو عذابات تجري في شراييني
وآهات وأحاسيس تتأرجح في متاهات الزمن المصلوب في جمهورية الصمت المطبق ..ومشاعر تطير بي نحو آفاق لاحدود لها ..
أحلام الطائرة وهدير محركاتها يثيران في نفسي غموض وتساوْل في حين مزق رنين الجرس بحر التآملات تلك ..تأففت قليلاً ثم ناديت
زوجتي ..فهي منهمكة في ترتيب وتنظيف وتعديل بقايا ما تبقى من آثاث البيت الذي ربما سنغادره اذا تحققت نبوءة أحلامي ليس الا ..
جاءني الصوت كأنه صادر من أعماق بئر مهجور ..لا أحد ..رن الجرس كالعادة بالخطأ..وهذا الخطأتعودنا عليه ولن يكون سراً حينما أقول
ان الطابق الأرضي الذي يقطنه جاري كما يقال ..لديه أكثر من عشرة اقزام بل أطفال ..يتراوح أعمارهم بين الرابعة والخامسة لا أكثر
فهم كأقزام الصين أينما ذهبت تلقاهم ..فهم يعيشون وينامون ويأكلون كالآرانب في شرفة البلكون المطل على الشارع العام لمسكنهم وكثيراً ماكنت
أسأل جاري عن أسماء هذا القطيع ..فكان يضحك ويقول لا أعرف بل أعرف العدد..وعند المساء أجمعهم بالعدد أيضاً يختلط أحياناً الحابل بالنابل دون
أن نعرف هذا من ذاك لأن الكل يشيه الكل ..وأضحك قائلاً قبيلة من الأطفال ..ثم نضحك معاً..ومرت الأيام وحالة الأنتظار تلك مملة ..ثم
جاءت بعدها لحظات الوداع ..حزينة كئيبة ..تجمع أهل الحي بالكامل ..ان لم أقل جميعهم ..جاوْوا لتوديعنا وقد امتلأت وجوههم بدموع
غالية جداً على ..وبكيت معهم وأنا أردد لهم كلمة ..(سامحونا يا أعزائي...) كانت السيارة التي تنقلنا الى دمشق تنهب الأرض مسرعة
تسابق الريح والتاريخ والزمن ....ألقيت النظرة الأخيرة على جثمان ذكرياتي وتمتمت فوق نعش أحلأمي آخر صلاة المدينة الفاضلة التي اغادرها
الى الأبد ..القامشلي أو قامشلو أغنية العشاق ..البلدة الوديعة الهادئة التي شربت من مبسمها نخب الحب والتضحية والمعاناة والفرح والحزن
والسعادة والخير ..والعطاء والأزاهير ..قامشلو حيث يسكن فيها من أحببت...
زنار عزم